9 مصاحف

 

الأربعاء، 6 يناير 2021

بحر الدموع الفصل 18/ {من الفصل 18 وحتي نهاية الكتاب اي للفصل 32 -الي الفصل الثاني والتلاثين }


من الفصل 18/ حتي اخره

18/
[الفصل الثامن عشر]يا غافلا عن نصيره، يا واقفا مع تقصيره، سبقك أهل العزائم، وأنت في بحر الغفلة عائم، قف على الباب وقوف نادم، ونكّس رأس الذل وقل: أنا ظالم، وناد في الأسحار: مذنب وراحم، وتشبّه بالقوم وإن لم تكن منهم وزاحم، وابعث بريح الزفرات سحاب دمع ساجم، وقم في الدجى نادبا، وقف على الباب تائبا، واستدرك من العمر ذاهبه، ودع اللهو جانبا، وطلّق الدنيا إن كنت للآخرة طالبا، يا نائما طوال الليل سارت الرفقة، ورحل القوم كلهم، وما انتبهت من الرقدة.ويروى عن اياس بن قتادة رضي الله عنه، وكان سيّد قومه، أنه نظر يوما إلى شعرة بيضاء في لحيته، فقال: اللهم إني أعوذ بك من فجأة الأمور، أرى الموت يطلبني، وأنا لا أفوته، ثم خرج إلى ثومه، وقال لهم: يا بني سعد، قد وهبت لكم شبابي فلتهبوا لي شيبتي، ثم دخل داره، ولزم بيته حتى مات.وأنشدوا:أمن بعد شيب أيها الرجل الكهل ... جهلت ومنك اليوم لا يحسن الجهلتحكّم شيب الرأس فيك وإنما ... تميل إلى الدنيا ويخدعك المطلدع المطل والتسويف إنك ميّت ... وبادر بجدّ لا يخالطه هزلسأبكي زمانا هدّني بفراقه ... فليس لقلبي عن تذكره شغلعجبت لقلبي والكرى إذا تهاجرا ... وقد كان قبل اليوم بينهما وصلأخذت لنفسي حتف نفسي بكفها ... وأثقلت ظهري من ذنوب لها ثقلوبارزت بالعصيان ربا مهيمنا ... له المنّ والإحسان والجود والفضلأخاف وأرجو عفوه وعقابه ... وأعلم حقا أنه حكم عدلوروي عن الحسن البصري أنه كان يقول: يا ابن آدم، هبطت
=================
19/
[الفصل التاسع عشر]يا أخي، لا يبيع الباقي بالفاني إلا خاسر، وإياك والأنس بمن ترحل عنه، فتبقى كالحائر، رفيق التقوى رفيق صادق، ورفيق المعاصي غادر، مهر الآخرة يسير، قلب مخلص، ولسان ذاكر، إذا شبت ولم تنتبه، فاعلم أنك سائر، فديت أهل التهجد بلسان باك وجفن ساهر، كم لهم على باب تتجافى جنوبهم من تملق ودمع قاطر، إذا تنسّموا نسيم السحر أغناهم عن نسيم العذيب وحناجر، عصفت بهم رواشق الاستغفار البواكر، عمروا منازل الخدمة، ومنزل الغفلة خراب داثر.قال ذا النون المصري رضي الله عنه: رأيت شابا في بعض السواحل مصفرّ اللون على وجه نور القبول، وآثار القرب وعز الأنس، فقلت: السلام عليك يا أخي، فقال: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، فقلت له: ما علامة المحبة، فقال: التشتت في البلاد، والتهتك في العباد، وتحريم الرّقاد، وخشية البعاد.وأنشدوا:أبليت من أحببت يا حسن البلا ... وخصصت بالبلوى رجالا خشعاأحببت بلواهم وطول حنينهم ... وأطلت ضرّهم لكي يتخضعاإخواني: كم إلى دير المحبة من موارد ومصادر، نبهوا رواهب الشوق لتكون إليهم سائر، طلبوا منه شرابا عتيقا جلّ عن معاصرة العاصر، فتح لهم دنان التوله، فانفض منه رحيق التحقيق له شعاع يملأ البصائر، أدار عليهم أقداح الوجد، فحنّوا إلى المزيد حنين الذاكر، خامرهم سكر التولة، فبدا لهم كل غائب وحاضر، استزادوا من هذا الشراب الطيّب الطاهر، بذلوا فيه النفوس والأوطان والغائب والحاضر، أطربهم تلحين أهل دير المحبة، فتواجدوا تواجد كابر عن كابر، محبوبهم ساقيهم، ومجلس أنسهم منضدّ بأنواع الأزاهر، ملوك في وقت السكر، عبيد في وقت الصحو، فهم بين غائب وحاضر.
==============
20/
[الفصل الموفى عشرين] يا أسيرا في قبضة الغفلة، يا صريعا في سكرة المهلة، يا ناقض العهد، انظر لمن عاهدت في الزمن الأول، أكثر العمر قد مضى، وانت تتعلل، يا مدعوّا إلى نجاته وهو يتوانى، ما هذا الفتور والعمر قد تدانى، كأنك بالدمع يجري عند الموت هتانا.يا أخي ما أحسن ما كنت فتغيّرت، ما أقوم جادتك، فكيف تعثرت؟ يا معاشر المطرود عن رفاق التائبين {وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} النمل 75.كان بعض الأغنياء كثير الشكر فطال عليه المد، فبطر وعصى، فما زالت نعمته ولا تغيّرت حالته، فقال: يا رب، تغيّرت طاعتي، وما تغيّرت نعمتي، فهتف به هاتف يقول: يا هذا: إن الأيام الوصال عندنا حرمة وذمام، حفظناها نحن لك، وضيّعتها أنت لنا.وأنشدوا:سأترك ما بيني وبينك واقفا ... فإن عدت عدنا والوداد سليمتواصل قوما لا وفاء بعهدهم ... وتترك مثلي والحفاظ قديمقال رجل لحاتم الأصم رضي الله عنه: أوصني بشيء أتصل به إلى باب الله سبحانه وتعالى، فقد عزمت على سفر الحج.فقال: يا أخي، إن أردت أنيسا، فاجعل القرآن أنيسك، وإن أردت رفيقا، فاجعل الملائكة رفقاءك، وإن أردت حبيبا، فالله سبحانه يتولى قلوب أحبابه، وإن أردت الزاد، فاليقين بالله سبحانه وتعالى نعم الزاد، واجعل البيت قبلة وجهك، وطف بسرّك حوله.
============
21/
[الفصل الحادي والعشرون]يا أخي، لله درّ أقوام نعمّهم مولاهم بقربه، فحجبهم عن خطرات الوسواس. حمي إقليم قلوبهم من غبار الشهوات من حمايته بحراس، قبلوا أمره بالقبول، وقاموا به على العينين والرأس، قدّموا زاد الأعمال لسفر الموت وظلمة الأرماس، يا بطّال، أبطال ميدان الدّجى لله درّهم من أبطال وأفراس، خلع عليهم خلعة الرضا، ونادهم مرحبا بالأحباب الأكياس، {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} آل عمران 110.وأنشدوا:أيا نفس توبي قبل أن ينكشف ... الغطا وأدعى إلى يوم النشور وأجزعفلله عبد خائف من ذنوبه ... تكاد حشاه من أسى تتقطعإذا جنّه الليل البهيم رأيته ... وقد قام في محرابه يتضرّعينادي بذل يا إلهي وسيدي ... ومن يهرب العاصي إليه ويفزعقصدتك يا سؤلي ومالي مشفع ... سوى حسن ظني حين أرجو وأطمعفجد لي بعفو وامح ذنبي ونجّني ... من النار يا مولى يضرّ وينفعبهذا ينال الملك والفوز في غد ... ويجزى نعيما دائما ليس يقطعوقف الفضل الجوهري العالم في الحرم متوجها إلى الكعبة وهو محرم ثم قال بأعلى صوته:يا تلفى بحتوف المراقبة والمعرفة، يا قتلى بسيوف المؤانسة والمحبة، يا حرقى بنار الخوف والاشتياق، ويا غرقى في بحر المشاهدة والتلاق، هذه ديار المحبوب، فأين المحبون؟ هذه أسرار القرب، فأين المشتاقون؟ هذه آثار الديار والربوع فأين القاصدون؟ هذه ساعة العرض والاطلاع على الدموع فأين الباكون؟.
============================
22/
[الفصل الثاني والعشرون]يا أخي لا تغسل أدناس الذنوب إلا بماء المدامع، لا ينجو من قتار المعصية إلا من يسارع، أحضر قلبك ساعة، عساه بنائحة الموعظة يراجع، كم لي أتلو عليك صحف الموعظة، وما أظنك سامع.لكن يوم المعصية ما أنحسه من طالع، ويوم الطاعة مختار وكل سعد فيه طالع، أطلب، ويحك، رفاق التائبين، وجدد رسائلك للحبيب وطالع، مصباح التقوى يدل على الجادة، وكم في ظلمة الغفلة من قاطع، ابك، ويحك، على موت قلبك وعمى بصيرتك، وكثرة الموانع. إذا لم يعظك الدهر والشيب والضعف، فما أنت صانع، فبالله يا إخواني بادروا بالمتاب، وراجعوا أنفسكم قبل يوم الحساب.ما اعتذاري وأمر ربي عصيت ... حين تبدي صحائفي ما أتيتما اعتذاري إذا وقفت ذليلا ... قد نهاني ما أراني انتهيتيا غنيا عن العباد جميعا ... وعليما بكل ما قد سعيتليس لي حجة ولا لي عذر ... فاعف عن زلتي وما قد جنيتقال علي بن يحيى في كتاب لوامع أنوار القلوب: صحبت شيخا من عسقلان سريع الدمعة، حسن الخدمة، كامل الأدب، متهجدا بالليل متنسكا في النهار، وكنت أسمع أكثر دعائه الاعتذار والاستغفار، فدخل يوما في بعض كهوف جبل اللكام وغيرانه، فلما أمسى رأيت أهل الجبل وأصحاب الصوامع يهرولون إليه، ويتبركون بدعائه، فلما أصبح وعزم على الخروج، قام أحدهم، وقال: عظني، قال: عليك بالاعتذار، فإنه إن قبل عذرك وفزت بالمغفرة، سلك بك إلى درجات المقامات، فوجدتها أمانيك، ثم بكى وشهق وخرج من الموضع، فلم يلبث إلا قليلا حتى مات.
==============================
23/ [الفصل الثالث والعشرون]يا من سوّف بالمتاب حتى شاب، يا من ضيّع في الغفلة أيام الشباب، يا مطرودا بذنوبه عن الباب، إذا كنت في الشباب غافلا، في المشيب مسوّفا، متى تقف بالباب؟ كم عوملت على الوفاء؟ ما هكذا فعل الأحباب، الظاهر منك عامر، والباطن ويحك، خراب، كم عصيان كم مخالفة، كم رياء, كم حجاب؟ ولّى طيب العمر في الخطايا، يا ترى تعود إلى الصواب؟.ما بعد الشيب لهو، كيف يجمل بالشيخ التصاب؟ أنت لو قدمت في متقادم عمرك الطاعة، لخفف عنك الحساب. كيف والعمر ولى في الغفلة وفي طلب الأسباب؟ إذا أنذرك المشيب بالرحلة، ولم تقدّم الزاد ماذا يكون الجواب.ليت شعري أهل المعاصي كيف عيشهم يطيب {وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ} سبأ 51.يروى أن محمد بن واسع رأى شبابا في المسجد، قد خاضوا في بحر الغيبة والضلالة، فقال لهم: أيجمل بأحدكم أن يكون له حبيب، فيخالفه ليفوز به غيره؟ فقالوا: لا. فقال: أنتم قعود في بيت الله تخالفون أمره، وتغتابون الناس. فقالوا: قد تبنا. فقال: يا أولادي، هو ربكم وحبيبكم، وإذا عصيتموه، وأطاعه غيركم، خسرتموه. وربحه غيركم، أفلا يضرّكم ذلك؟ قالوا: نعم. فقال: ومن خالفه، وربما يعاقبه لو عاقبه، أفلا تغيرون على شبابكم كيف يعاقب بالنار والعذاب وغيركم يفوز بالجنة والثواب. قالوا: نعم وحسن رجوعهم إلى الله تعالى.وأنشدوا:ألا فاسلك إلى المولى سبيلا ... ولا تطلب سوى التقوى دليلاوسر فيها بجد وانتهاض ... تجد فيخا المنى عرضا وطولا
===================================
24/
[الفصل الرابع والعشرون]يا راحلا بلا زاد والسفر بعيد، العين جامدة والقلب أقسى من الحديد. من ألوى منك بالضراء وأنت تغرق في بحر المعاصي في كل يوم جديد. ما أيقظك الشباب ولا أنذرك الاكتهال، ولا نهاك المشيب، ما أرى صلاحك إلا بعيد، فديت أهل العزائم، لقد نالوا من الفضل المزيد، طووا فراش النوم، فلهم بكاء وتعديد، دموعهم تجري على خدودهم، خدّدت في الخدود أي تخديد، ما أنت من أهل المحبة ولا من العشاق يا قليل الهمة يا طريد.لأمر ما تغيرا الليالي ... وأنت على البطالة لا تباليتبيت منعّما في خفض عيش ... وتصبح في هواك رخيّ بالألم تر إن أثقال الخطايا ... على كتفيك أمثال الجبالأتكسب ما اكتسبت ولا تبالي ... فهل هو من حرام أو من حلالإذا ما كنت في الدنيا بصيرا ... كففت النفس عن طرق الضلالألا بأبي خليل بات يحيى ... طويل الليل بالسبع الطوالبقلب لا يفيق عن اضطراب ... وجفن لا يكف عن انهمالأرى الأيام تنقلنا وشيكا ... إلى الأجداث حالا بعد حالسأقنع ما حييت يشطر بر ... أشيّعه بريّ من زلالإذا كان المصير إلى هلاك ... فما لي والتنعّم ثم ما ليأما لي عبرة فيمن تفانى ... على الأيام من عم وخالكأن بنسوتي قد قمن خلفي ... ونعشي فوق أعناق الرجاليعجلن المسير ولست أدري ... لدار الفوز أم دار النكاليبيد الكل منا دون شك ... ويبقى الله بري ذو الجلاليروى عن رجل من أصحاب داود الطائي أنه قال: دخلت على داود، فقال لي
==============================
25/
[الفصل الخامس والعشرون]يا أخي، أفنيت عمرك في اللعب، وغيرك فاز بالمقصود وأنت منه بعيد، غيرك على الجادة، وأنت من الشهوات في أوجال وتنكيد، ترى متى يقال: فلان استقال ورجع. يا له من وقت سعيد، متى تخرج من الهوى وترجع إلى مولاك العزيز الحميد، يا مسكين، لو عاينت قلق التائبين، وتململ الخائفين من هول الوعيد، جعلوا قرّة أعينهم في الصلاة، والزكاة، والتزهيد، وأهل الحرمان ضيعوا الشباب في الغفلة، والشيب في الحرص والأمل المديد، لا بالشباب انتفعت، ولا عند المشيب ارتجعت، يا ضيعة الشباب والمشيب: {وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ} سبأ 51.وأنشدوا:عملت على القبائح في شبابي ... فلما شبت عدت إلى الرياءفلا حين الشباب حفظت ديني ... ولا حين المشيب طببت دائيفشاب عنده مصغر غويّ ... وشيخ عند مكبره مرائيقضاء سابق في علم غيب ... فيا لله من سوء القضاءيروى في بعض الأخبار إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لقي حذيفة بن اليمان وهو يومئذ أمير المؤمنين، فقال لحذيفة: كيف أصبحت يا حذيفة؟ قال: أصبحت يا أمير المؤمنين أحب الفتنة، وأكره الحق، وأقول بما لم يخلق، وأشهد بما لم أر، وأصلي بلا وضوء، ولي في الأرض ما ليس لله في السماء.فغضب عمر لذلك غضبا شديدا، وهمّ إن يبطش به، ثم تذكر صحبته من
=========================
26/
[الفصل السادس والعشرون]يا هذا، لا يزال التائبون يهربون إلى دير الخلوة هروب الخائف إلى دار الأمان، لهم في سحر الليل تأنس بمدامع الأجفان، كتب السجود في ألواح جباههم خطوط العرفان، كم لأقدامهم في الدجى من جولان وكم لهم في وادي السحر من عيون تجري كالطوفان، فإذا لاحت أعلام الفجر كبّروا عند مشاهدة العيان، فديت طراق الدجى، فديت أرباب العزائم، فديت الفتيان.بادروا رواهب الخلوة، نحن لكم جيران، تركنا الأسباب والأهل والأوطان، فرقنا شهوات النفوس والأبدان، وخرّبنا ديار اللهو، فأقفرت منذ زمان، طلقنا الدنيا بتاتا، وهجرنا الدار والسكان، سقينا من شراب الأنس شربة ولو كان ما كان، لبسوا حلة الجوع بالنهار، وتركوا خدمة من جلّ وهان، عمروا القلوب بالتقوى، وبالذكر اللسان، لهم نزاحم على باب الدجى، فمنهم من صاح ومنهم نشوان، ومنهم من خامره بالشوق، فهو من الحب ولهان، ومنهم من غلبه الوجد، فهو هائم سكران، أفناهم الخوف وأذبلهم الأرق وهم من القلق كل يوم في شأن. سيّرهم ذكر الحبيب ولهم في التلاوة ألحان، نالوا منازل التوكل، وأصبحوا فيها قطان، باعوا شهوات النفوس بأبخس الأثمان، سجلوا على أنفسهم سجل الرضا بالقضاء، فأهلا بالرجال الشجعان، تتجافى جنوبهم عن المضاجع ولهم تلحين بالقرآن، خامرهم الخوف فسكروا من شرابه مخافة النيران، منهم من سقي شراب المحبة صرفا، وتزايدت لهم الأحزان، ومنهم من مزج له بالأشواق، فعاين منه ألوان، كم خرّبوا في حبه منازل، وكم أيتموا فيه من ولدان. تراهم أبدا سكارى عرايا في القفار وفي البلدان. قلوبهم مملوءة بالخوف، وظاهرهم مضمّخ بالأحزان، ينادي لسان شوقهم: لا كان من ألم السلوى ولا كان، خرق لهم حجاب العادات وعقد على رؤوسهم للولاية تيجان، مجلس أنسهم مضمخ بالمشاهدة شديدة الأركان.
=============================
27/
[الفصل السابع والعشرون]اعلم أن الزنى من أكبر الكبائر، وهو شؤم على صاحبه في الدنيا والآخرة، ووبال على صاحبه.وقد نهى الله تعالى عنه في مواضع من كتابه، فقال تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} الإسراء 32. وقال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} المؤمنون 5، 7.وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن" (1) .، أراد بذلك أن الزاني مبعد عن الله تعالى، مستوجب المقت من الله عز وجل.وفي الخبر أن شابا أتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: يا رسول الله، أتأذن لي في الزنى، فصاح الناس به، فقال: "اتركوه، أدن مني"، فقال: "أتحبه لأمك؟ " قال: لا، جعلني الله فداك. قال: "كذلك الناس لا يحبونه لأمهاتهم"، ثم قال له: "أتحبه لأبنتك؟ " قال: لا. قال: "كذلك الناس لا يحبونه لبناتهم". حتى ذكر الأخت، والخالات والعمات وهو يقول: لا، ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "كذلك الناس لا يحبونه"، ثم وضع يده الكريمة على صدره، وقال: "اللهم طهر قلبه، واغفر ذنبه، وحصن فرجه"، فلم يكن بعد ذلك شيء أبغض إليه من الزنى (2) .وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لما خلقت المرأة، قال لها إبليس: أنت نصف جندي، وأنت موضع سري، وأنت سهمي الذي أرمي به فلا أخطئ" فتحفظ رحمك الله نت سهام الشيطان.
(1) أخرجه مسلم 57، ابن ماجة 3936.
(2) رواه أحمد وإسناده صحصح.
=========================
28/
[الفصل الثامن والعشرون]وفي الخبر أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقد كعبا فسأل عنه، فقيل إنه مريض، فخرج يمشي حتى أتاه، فلما دخل عليه قال: "أبشر يا كعب"، فقالت له أمه: هنيئا لك الجنة يا كعب. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من هذه المتألية على الله؟ " قال: أمي. قال: "وما يدريك يا أم كعب، لعل كعبا قال ما لا يعنيه أو سمع ما لا يعنيه؟ ".وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "العبادة تسعة أجزاء في الصمت، وجزء في الفرار من الناس" (1) .وفي الحكمة: تسعة أعشار العبادة في الصمت.وحكي أن مريم لما نذرت إلا تتكلم، وحبست لسانها لأجل الله تعالى، أطلق الله سبحانه وتعالى لسان صبي لا يعرف الخطاب، أنطقه الله لأجلها.فمن حفظ لسانه لأجل الله تعالى في الدنيا، أطلق الله لسانه بالشهادة عند الموت ولقاء الله تعالى. ومن سرّح لسانه في أعراض المسلمين، واتبع عوراتهم أمسك الله لسانه عن الشهادة عند الموت.وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من كثر كلامه كثر سقطه، ومن كثر سقطه، كثرت ذنوبه، ومن كثرت ذنوبه، كانت النار أولى به" (2)فلذلك كان الصّدّيق رضي الله عنه يضع فيه حجرا ليمنع نفسه عن الكلام.
(1) قال الحافظ العراقي: منكر.
(2) صحيح بشواهده من حديث عمر موقوفا.
==============================
/29/
[الفصل التاسع والعشرون]قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأبي هريرة: "يا أبا هريرة، إن أحببت أن يفشي الله لك الثناء، الحسن الجميل في الدنيا والآخرة، فكف لسانك عن المسلمين".وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ما صام من ظل يأكل لحوم الناس" (1) .وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أبغض عباد الله إلى الله كل طعّان لعّان.وقال سعيد بن عامر عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من دعا رجلا بغير اسمه، لعنته الملائكة (2) .قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن العبد يعطى كتابه يوم القيامة، فيرى فيه حسنات لم يكن عملها قط، فيقول: يا رب، من أين هذه الحسنات؟ فيقول: باغتياب الناس فيك وأنت لا تعلم" (3) .وقال حاتم الأصمّ: ثلاثة إذا منّ في مجلس فالرحمة مصروفة عنه: ذكر الدنيا، والضحك، والوقيعة في الناس.واعلم رحمك الله، إن النميمة تفسد الدين والدنيا، وتغيّر القلوب، وتولّد البغضاء، وسفك الدماء، والشتات. قال الله العظيم: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} القلم 10-13.وسئل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الغيبة فقال: "أن تذكر أخاك بما هو فيه غائب عنك، وإن ذكرته بما ليس فيه فقد بهته" (4) أي فذلك البهتان.
(1) ذكره الحافظ الزيلعي في نصب الراية من جملة أحاديث لا تصح.
(2) رواه ابن السني في عمل اليوم والليلة. وهو حديث ضعيف.
(3) رواه الخرائطي في مساوئ الأخلاق. وهو حديث ضعيف.
(4) رواه مسلم 2589، أبو داود 4874.
=====================
30/
[الفصل الموفى ثلاثين]قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن الله تعالى حرّم من المسلم دمه وماله وعرضه".فالغيبة بالقلب حرام، كما هي باللسان حرام، إلا إن يضطرّ لمعرفته، بحيث لا يمكنه التجاهل، فحدّ الغيبة كما بيّنه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو أن تذكر أخاك بما يكرهه إن بلغه أو سمعه، وإن كنت صادقا سواء ذكرت نقصانا في نفسه، أو عقله، أو ثوبه، أو في فعله، أو في قوله أو في دينه، أو في داره، أو في دابته، أو في ولده، أو في عبده، أو في أمته، أو بشيء ما يتعلق به، حتى قولك: إنه واسع الكم، طويل الذيل.وقد ذكر رجل عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقيل: ما أعجزه، فقال: "اغتبتموه".وأشارت عائشة رضي الله عنها إلى صفيّة، وقالت لها كذا وكذا، وأشارت بيدها، تعني قصرها، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اغتبتها يا عائشة"، فقالت: يا رسول الله، أليست هي قصيرة؟ قال: "إنك ذكرت أقبح شيء فيها".والغيبة لا تقتصر على اللسان، بل كل ما يفهم منه عرض يكرهه المذكور فيه إن بلغه أو سمعه، باليد، أو بالرجل، أو بالإشارة، أو بالحركة، أو بالتعرّيض أو بالمحاكاة، فهي غيبة.وقد عظم الله تعالى أمر الغيبة، فقال تعالى: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ} الحجرات 12. وقال تعالى: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} الهمزة 1.فقيل معناه الطاعن في الناس، الذي يأكل لحوم الناس.وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مررت ليلة أسري بي على قوم يخمشون وجوههم
=====================
31/
[الفصل الحادي والثلاثون]قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده" (1) .وقال: "المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه" (2) .وقال: "المسلمون كرجل واحد، إذا اشتكى رأسه، تداعى بقيّة جسده بالحمّى السهر" (3) .وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من سرّه أن يسلم فليلزم الصمت".وقال معاذ رضي الله عنه لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا رسول الله، أنؤاخذ بما نقول؟ فقال: "ثكلتك أمك يا ابن جبل، وهل يكبّ الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم؟! " (4) .وقيل لعيسى عليه السلام: دلنا على عمل ندخل به الجنة، قال: فلا تنطقوا أبدا.قالوا: لا بدّ لنا من ذلك. قال: فلا تنطقوا إلا بخير.وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اخزن لسانك إلا من خير، فانك بذلك تغلب الشيطان" (5) .وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن الله تعالى عند كل لسان ناطق، فليتق الله امرؤ علم ما يقول" (6) .وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت" (7) .
(1) مسلم 40.
(2) مسلم 2580.
(3) البخاري 6011، ومسلم 2586.
(4) الترمذي 2616. حديث حسن.
(5) رواه ابن أبي الدنيا في الصمت بإسناد حسن.
(6) رواه ابن المبارك في الزهد.
(7) مسلم 48.
================
32/
[الفصل الثاني والثلاثون]اعلم أن الربا من المهلكات وهو أخفى من دبيب النمل على الصفاء في الليلة الظلماء، وإن أدنى الربا كالذي يزني مع أمه والزنية مع الأم أعظم الأمور وزرا من سبعين زنية مع غيرها.قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} البقرة 278. وقال تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} البقرة 275.وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "درهم الربا أشد عند الله من ست وثلاثين زنية في الإسلام" (1) .وقال سمرة بن جندب رضي الله عنه: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا صلى صلاة الغداة، اقبل علينا بوجهه الشريف، وقال: "هل رأى أحد منك رؤيا؟ " قلنا: لا يا رسول الله، فذكر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حديث الربا. قال: ثم انتقلنا حتى أتينا على نهر من دم وفيه رجل قائم، وعلى شاطئ النهر رجل قائم، وبين يديه حجارة، فأقبل الرجل الذي في النهر ليخرج، فلما أراد إن يخرج، رماه الرجل بحجر فيه، فردّه حيث كان، فجعل كلما جاء ليخرج رمى فيه حجرا، فرجع كما كان.قال: "فسألت عنه فقيل لي: هذا آكل الربا يفعل به هكذا يوم القيامة.وقال موسى عليه السلام: يا رب، ما جزاء من يأكل الربا ولم يتب منه؟ قال: يا موسى أطعمه يوم القيامة من شجر الزقوم.
(1) حديث صحيح، رواه أحمد في المسند.
=================================================================

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

القراءة وقصة الايام ا محمد عبد العزبز الثالث الثانوي

   ================================      👀 👀         ================================